كان العالم صامتا حينما كنا نموت
كانت هذه افتتاحية "تشيماماندا نجوزى" في كتابها الذي اتخذت له
اسم شارة علم بيافرا "نصف شمس صفراء".
كيف وضعت تشيماماندا العالم كله في جهة، (ونحن) التي تمثلت في الإيبو في
جهة أخرى، وكيف أنها انتقدت بلاد العالم أجمع واتهمتهُ بالجور والصمت المتواطئ مع
مسلمي الهاوسا، وكيف أنها ما زالت تحلم- كما جاء على لسان أبطال كتابها – بنصف شمس
صفراء ترفرف على أعلام بيافرا المستقلة.
حسناً .. أبدعت تشيماماندا بكتابت التاريخ من جهتها، أي من الجهة الأخرى،
المعاكسة تماما لمقولة "التاريخ يكتبه الأقوياء، المنتصرون"
فقد خسرت بيافرا، ولم ترفرف أعلام نصف شمس صفراء، ولم تقم الأمم المتحدة
ولا الدول العظمى – التي كان من مصلحتها آنذاك الالتحاف بغطاء العماء – لنجدته
بيافرا ونُصرتِها.
لكن تشيماماندا كتبت التاريخ، التاريخ من وجهه نظرها.
وحكت لنا من ثنايا كتابها عن المذابح التي أشعل فتيلها الهاوسا في الإيبو
المقيمين في الشمال، ووصفت بدقة واحترافية حال الإيبو في الجنوب، فمنهم أساتذة
الجامعات، ومنهم سكان القرى، حكت عن المجاعات والفقر المُضن والنجاح الباهر وحتى
عن الأخطاء.
وكان أكثر ما أعجبني فى تشيماماندا عدم ملائكية الأبطال.
فقد أخطئوا ، بل وافتعلوا الكثير من الأهوال هم الآخرون، فهم ليسوا ملائكة،
كما لم يكن الهاوسا شياطين، وهذا العجيب... فكلا الجانبين كان بشر!
والآن بعد الانتهاء من القراءة صرتُ أعلم، كما صار العالم أجمع يعلم ما حدث
في بيافرا.
فلو أن التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرين، فإن أبناء المنهزمين الضعفاء لن
ينسوا تاريخهم أبدا.
سيوعيدون كتابتُه وصياغة أحداثه، ولسوف يُلَقنُونَهُ لأبنائهم وبناتهم حتى
يغدوا في كتب مثل هذا الذي بين يدي الآن، ليعلم العالم أجمع الجانب الآخر من
التاريخ.
والآن وقد علمت ما فعله الهاوسا بالإيبو فقد وجدتُ نفسي أتضامن قلبا وقالبا
مع الإيبو، فنحن على الجانب الآخر من العالم – الجانب العربي الإسلامي – لا نقبل
بالقتل.
فالقتل يظل قتلا، والاعتداء يظل إجراما، والقاتل يبقي مجرم سواء كان مسلم،
مسيحيا، يهوديا، أو بلا دين.
ولا تبرير للقتل باسم الدين، لأنه في الحقيقة لا دين يبرر القتل.
فكما كان في التاريخ أمثله لمعتَدين من أديان مختلفة، مثل الحملات الصليبة
التي جاءت للاستعمار والحرب مرتدية عباءة الدين المسيحي- وهي لا تمت له بصلة- فإن
المجازر التي حدثت باسم الدين الإسلامي في نيجيريا لتلبية مصالح الدول المستعمرة
لا تمت للإسلام بصلة.
ببساطة لأنه لا دين للإرهاب.
وهذه قاعدة كل مسلم معتدل يعي معنى الجهاد في سبيل الله حقاً.
و أكثر ما أدهشني أنى اكتشفت أن مصر كانت أولى المساندين لنيجيريا ضد
الحرب البيافرييه في عصر جمال عبد الناصر، بل وإنها أمدت نيجيريا بطيارين مدرَبين
لقيادة الطائرات، وقد درب الطيارون المصريون العديد من من طياري نيجيريا لقيادة
الطائرات على مسافات منخفضة لقصف بيافرا وإخماد ثورة الإيبو.
وكل هذا عام 1967 أي بعد نكستنا في حربنا ضد الكيان الصهيوني الإسرئيلي.
فجاء على بالي أكان جمال عبد الناصر يحاول تعويض هزيمته ضد إسرائيل على
الأراضي الفلسطينية بمحاول هزيمة من تؤيدهم إسرائيل من الإيبو فى نيجيريا؟
حيث كانت إسرائيل من ممولي ثورة الإبيو.
سيل من الأسئلة انهال على رأسي بعد البحث أكثر عن هذه الحرب، حيث
كنا – كمصرين آنذاك – خارجين من فترة حرجة، فما هي الأسباب التي
جعلت مصر تشارك في هذه الحرب على الرغم من نكستها وهزيمتها في حربها ضد
الكيان الصهيوني ؟
فما لنا هناك في نيجيريا حتى نتدخل في حربهم القبلية ضد بعضهم البعض؟
في البداية توقعت ربما تكون قبيلة الإيبو من اليهود، فربما لهذا السبب
أرادت مصر تسديد ضربة للكيان الصهيوني من خلال مساندة الهوسا المسلمين ضد الإيبو
اليهود – بالرغم أنه ليس مبررا لقصف المدنيين العُزل من السلاح- لكن ربما كان هذا
السبب!
لكني اكتشفت أن الإيبو ليسوا يهوداً من الأساس وان أغلبهم من الديانة
المسيحية، إذا تدخلنا في هذه الحرب لم يكن له علاقة بالأصول الدينية.
ونحن في الأصل كنا نعيش جنبا إلى جنب مع اليهود بل ونتزوج منهم ويتزوجون
منا ويربطنا وطن واحد يجمعنا تحت رايته ، حتى خانوا عهدهم معنا كما خانوا
عهدهم مع الرسول من قبل، وانقلبوا ضدنا في حربنا مع الكيان الصهيوني المحتل.
إذا يبدو أن أسباب مشاركة جمال عبد الناصر في الحرب البيافرية كانت لها
جوانب أخرى.
لا أتقبلها ولكني أتفهمها.
هل رأيي صادم هنا؟!
كيف أتفهم الأسباب لكن لا أقبلها، لا أعلم أيهما الصادم التفهم أم عدم
التقبل لكني سأوضح لكي يا تشميمندا لماذا الاثنان.
أتفهم الأسباب لأن هذه حرب!
ببساطة هكذا؟
نعم ببساطه هكذا ربما لأن مصر كانت لها مصالح مع نيجيريا، أو أراد جمال عبد
الناصر الإثبات للعالم وقت ذاك أن نكستنا في 67 ليست النهاية وأننا نعد العدة
للصهاينة. أو حتى لسبب أبسط بكثير، ربما لأنه آمن حقا بضرورة وحدة نيجيريا
وأهميتها في قوة المنطقة!
ألم تري حروبا تستمر لعقود بسبب الإيمان فقط !
جنود أمريكا في أفغانستان ظلت تحارب هناك لمدة عشرين عاما لأنهم آمنوا بأيدلوجية
معينة – سواء كنتِ معهم أم ضدهم إلا أنهم كانوا مؤمنين – طالبان ظلت تحاربهم أيضا
لأنهم آمنوا بقضية ، الفرق الوحيد أنها القضية المعاكسة.
ربما كان جمال عبد الناصر مؤمن أيضا بقضية ما ، والتي كانت ضرورة وحدة نيجيريا. إذا
هل هذا مبررا لقتل مليون مدني؟
قبل الولوج في تفاصيل صحة الرقم، أو إن كان المليون مدنيين في الأساس.
ايجابتى ستكون بالتأكيد لا.
لا... جملة كاملة صحيحة.
لأنه إذا كانت إجابتي تتضمن أي نوع آخر من التبرير أو الملاوعه والميوعة،
سيعنى هذا أني أقبل بالتأكيد ما يفعله الكيان الصهيوني في فلسطين.
وإذا كنت لا أقبل تلك المجازر التي تحدث في عرب فلسطين فلن أقبل بالتأكيد
ما حدث من مجازر من قبل الهاوسا في الإيبو.
إذا لنعد هنا إلى مقولتك "كان العالم صامتا حينما كنا نموت"
ولنتذكر ما حدث وقتذاك للفلسطنين أيضا ، فالعالم لم يكن صامتا فقط حينما كنا
نحن – عرب فلسطين سُكانها وأصحاب الأرض – نموت، بل إن العالم مازال صامتا ونحن نموت
بالقصف كل يوم حتى الآن.
إذا هل يبرر اعتداء الصهاينة على مسلمي فلسطين، اعتداء مسلمي الهاوسا على الإيبو؟
ستكون إجابتي : قطعا لا!
لكن تُرى هل جاء على بال الكاتبة تشيماماندا من قبل أن يصل كتابها إلَى،
وأعني بذلك إلى يد فتاة مصرية، مسلمة، مدافعه عن القضية الفلسطينية ضد الصهاينة
اَلْمُحْتَلِّينَ، وتتضامن هذه الفتاة مع الإيبو وتدافع عنهم؟
وهل لو كانت هي مكاني وكان هذا الكتاب يتحدث عن صمت العالم حينما كان مسلمو
فلسطين يموتون، هل كانت تشيماماندا لتتضامن مع القضية الفلسطينية؟
هل كانت لتنصر الإنسانية والحق – الحق الذي أوحت له في كِتابها بالتأكيد – ضد مناصريها من الكيان الصهيوني؟
وأيضا: وجَد كتاب تشيماماندا "نصف شمس صفراء" فرصه ليظهر للنور
وقُبِلَ بالترحيب والتهنئة والجوائز، فحصل على جائزة الأورانج البراطانية لعام
2007.
فلما إذا لا يوجد كتاب... كتاب واحد فقط حاصل على جائزة عالمية يتحدث عن
القضية الفلسطينية، وعن كيف كان العالم صامتا ونحن مسلمون العرب الفلسطنين نموت؟ بالرغم أننا مازلنا نقاوم الاحتلال ومازلنا نموت حتى الآن!
لماذا لا نمتلك نحن العرب ذلك الحق في الكتابة عن قضيتنا، كتابة الوجه
الآخر للتاريخ، والكتابة عن مذابح الصهاينة في فلسطين وقصف غزة وترحيل أهالينا منها ؟
لماذا تُقابل كل تغريداتنا ومنشوراتنا المهاجمة للصهاينة والمُبينة للحقيقة
الصادمة بالحذف؟ لماذا لا نستطيع التحدث عن فلسطين بنفس الحرية التي تحدثت بها
تشيماماندا عن بيافرا؟
لماذا كُتبنا التي تحكي قصصنا الحقيقية وتصف أرضنا وتحكى وحشية الحروب التي
يشنها الكيان المحتل علينا، لا تحصد تلك الجوائز العالمية هي الأخرى؟
لما مازال العالم – العالم كله – مغمض عينة عن مذابح الصهاينة في فلسطين؟
وها هم قد كذبوا الكذبة وصدقوها وصنعوا لها أبطالهم الخارقين!
لذلك حتى لو استمر العالم في الصمت بينما نحن نموت، وحتى لو كتبوا مئات
الكتب المزورة، ولو رسموا آلاف الأبطال المزيفين، وكذبت دول العالم أجمع واعترفوا
بتلك الخلية السرطانية المُنشأة في قلب أرضنا الطاهر العربي "فلسطين".
سوف نظل نحكي عن فلسطين لأولادنا، سنحفظ التاريخ في قلوبنا، ولسوف نورث ثأرنا لأبنائنا في المستقبل ، فحتى لو كتبَ التاريخ المنتصرين والأقوياء سيظل المنهزمون يورثون تاريخهم لأبنائهم ولن يموت.
لن نموت... سنحفظ أرضنا داخل قلوبنا، وتاريخنا في عقولنا، ولسوف نحلم بالغد
الذي ترفرف فيه علم فلسطين المحررة كما ما زالت تحلم تشيماماندا بعلم بيافرا
المستقلة ،
لذالك حتى وإن محو فلسطين من كل خرائط العالم ستظل فلسطين محفورة على جدران
قلوبنا.
لو كانت تشيماماندا تعرف العربية، ولو كانت في محيط يصل هذا المقال من خلاله لها ، لقرأتهُ وهي تضحك قائلة: انظروا إلى تلك الهمجية وريثة الهمج التي تدعو إلى الجهاد وقتل الناس الأبرياء!!
انظروا إن تلك الفتاة مسلمة بحق، ولو أنها امتلكت الفرصة لكانت مع جنود الهاوسا الذين ذبحوا أبناءنا الإيبو، أنهم حقا همجيون!
لكن المضحك والمفاجئ لكي يا عزيزتي تشيماماندا
أننا نحن المسلمون – المسلمون بحق – لا نقبل بأي شكل من أشكال الاعتداء على
أي مسالم، ولا نعترف بأي كيان إرهابي، بل إن الصادم لكي أننا نُقاوم الإرهاب الذي
مَوَّلَهُ من مَوَّلُوا الهاوسا بالسلاح في بلدك.
وأعتقد أنكِ على درجة كافية من العلم والثقافة لتعلمِي مُمَول تلك الحركات،
فقد كنت على علم بمن هم المستفادون بمد الهاوسا بالسلاح والإمدادات وقد ذكرت هذا
في كتابك، فلم يذهلني مدى وعيُكِ بل مدى سويتك وجرأتك على ذكرهم.
صحيح أن بريطانيا هي من أمدت الهاوسا بالسلاح آنذاك - كما أمدت الصهاينة
بالسلاح في فلسطين- لكن أفراد وجنود الهاوسا هم من امسكوها وأشعلوا فتيل المذابح
في الإيبو السالمين، لذلك لا يختلف مسلمو الهاوسا عن يهود الصهاينة الآن.
فإن الإنسانية تُجرم كلا الفريقين.
وقد كانت ترجمه الكتاب على يد فاطمة نعوت مناصرة جمال عبد
الناصر من أحد الأمور الصادمة أيضا، لكنها لمحة مشرفة لنا نحن المصريون بعد ما فعلناه
من مناصرة نيجيريا – والذي يعد من رأى الكاتبة أكبر جرائمنا المحرمة – أن نترجم هذا الكتاب ونسمح لشبابنا المصري أن يري بلدهم من عيون أخرى، عيون لا تراها أم الدنيا
بل مدربة طيارين يقصفون المدنيين من خلال الطيران على ارتفاعات منخفضة.
وكقارئة للكتاب في 2022 اسأل نفسي دائما أين كانوا هؤلاء الطيارين في
نكستنا ضد إسرائيل؟
وهل كان من الضروري حقا اتخاذ لنا أعداء في الجانب الغربي من القارة؟
وهل كانت الاتفاقيات والمصالح المشتركة بين مصر ونيجيريا تستحق هذا العناء؟
وماذا كانت ستفعل نيجيريا لمسانداتنا على أي حال بعد فوزها؟
الكثير من الأسئلة... ودائما الإجابة في التاريخ.
في النهاية كان هذا الكتاب ملحميا للغاية يحتاج لقدر كاف من التقبل والوعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق